الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة المخرج الفلسطيني ايليا سليمان يضيء مهرجان كان.. بقلم الناقد طاهر الشيخاوي

نشر في  25 ماي 2019  (12:32)

بقلم الناقد طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان

يعود ايليا سليمان إلى مهرجان كان عشر سنوات بعد "الزمن الباقي"، مدّة طويلة كدنا نعتقد أنها لن  تنتهي، كدنا نعتقد أن صمت سليمان لم يعد يقتصر على شخصيته بل طال المخرج ذاته، خشينا أن يمتدّ امتناع ايليا عن الكلام إلى امتناع سليمان عن الإخراج.

ولكن من حسن حظنا عاد ايليا وعاد سليمان بعمل جديد رائع، "لا بد أن تكون الجنّة"، في المسابقة الرسمية للدورة 72 للمهرجان، عمل يتضمن فيما يتضمن  وبطريقة ما، عرضا لأسباب هذا الصمت. فمحور الفيلم يتمثل في بحث المخرج عن تمويل لشريطه هذا. ولكن ما أن زالت خشيتنا الأولى حتى انتابتنا خشية ثانية ونحن نشاهد اللقطات الأولى من الشريط، وهي السقوط في التكرار الممل والدوران حول الذات، ولكن سرعان ما تبددت كل المخاوف فسلمنا بأننا أمام عمل عظيم في اعتقاد راسخ أنّ أعضاء لجنة التحكيم لن يمروا عليه مر الكرام.

يبدأ "لا بد أن تكون الجنّة" كما يبدأ "الزمن الباقي" بمشهد ديني، موكب عشائري جليل مهيب يتقدم نحو الكنيسة، يطلب القس من الحارس الموجود داخل المعبد أن يفتح الباب، ننتظر ولكن الحارس لم يمتثل لأمر القس مجيبا من داخل المعبد أنه لن يفعل ذلك أبدا مهما كلّفه الأمر، ينفد صبر الشيخ فيتخلى عن وقاره وهيبته ويذهب مهرولا إلى الباب الخلفي للمبنى ويخلعه بضربة ساق كأننا في دراما بوليسية، فيأتينا صراخ الحارس تحت وقع لكمات القس الذي يخرج منتصرا فاتحا باب الكنيسة مرحبا  بالجميع.

مشهد كوميدي خلافا لمشهد الزمن الباقي، ولكنه يختزل كل ما سيأتي بعده، تتعطل قدسية المكان والسياق بفعل حارس عربيد وتتحول المسيرة الموقرة إلى عملية تافهة مبتذلة يلتجئ فيها صاحب الوقار إلى استعمال أساليب عنيفة لتأمين الموكب. يُمكن، في مضمونها، تعميم القصّة على تاريخ المنطقة بأسرها، أما في شكلها فهي تحيلنا على الكوميديا السخيفة، فتكتسي أفعال الشخصيات الأسطورية شكل تصرف الفئات السوقية.

ويتواصل الفيلم على هذه الشاكلة من بدايته إلى نهايته في قالب حكايات رمزية موجزة كالبارابولات يقدمها لنا شاهد من أهلها، ايليا سليمان، شاهد مشاهد لا يتجرأ على التلفظ بكلمة خشية التنقيص من فظاعة المشهد، تاركا لنا نحن معشر المشاهدين عبء التعليق والتحليل، ولكن لا حول ولا قوة لنا إلا أن نتماهى مع هذا الجسد المُجسِّد للكاميرا فنسجل ما يسجله ونضحك ثم نضحك من سخرية الزمن وما تبقى منه.

هذا هو تمشي ايليا سليمان تماما كما عهدناه في أعماله السابقة، هذا هو جهازه السردي والجمالي بارابولات مختزلة جدا ومنفصلة عن بعضها البعض نتابعها بعين الراوي الصامت. ما يترك في نفس الوقت مجالا أوسع للصورة وضرورة ألحّ لاستغلال كل قدراتها. هنا تكمن قيمة سليمان خاصة في سياق واقع ثقيل عنيف يحكم على التمثلات باعادة انتاجه، فلنكرر ما كنا قلناه سابقا، بفضل أسلوبه هذا يُحرر ايليا سليمان الخيال من جور الواقعية المغلقة التي وجدت فيها الأجهزة السمعية المرئية غذاءها اليومي.

فكان الإطار وكان الضوء وكان الصوت وكان المونتاج وكان الأداء.

 ولكن لم يقتصر المخرج في عمله الأخير على الناصرة حيث تبدأ الحكاية وحيث تنتهي، لم يقتصر على منزله وحديقته وجاره المعتوه راوي الخرافات المجنونة، بل اتسعت دائرة الشريط فانتقلنا إلى باريس ثم إلى نيو يورك. وهنا يكمن الجديد.

وحتى لا يضيع المعنى أفرغ ايليا سليمان مدينة باريس من سكانها تماما فلم يبق فيها سواه وشخصية أو بعض الشخصيات حولها يتركز النظر حسب مقتضيات الحكاية، سيدات رشيقات يمشين في الشارع بفساتين وتنانير قصيرة وأنيقة كما لو كنّ في عرض أزياء، مدرعات عسكرية تتتابع حامية بناية بنك فرنسا، زبالان افريقيان يلعبان بعلب المشروبات الفارغة راميين بها بحذق ودقة، كل بمكنسته، في بلاعات مجرى المياه المحاذية للأرصفة في حركات تحاكي لاعبي الغولف، أعوان شرطة راكبون خيولا تتدحرج في نسق منتظم تاركة وراءها فضلاتها في نفس النسق وماكينة تلي الموكب مهمتها رفع ما جادت به الدواب من روث، وفي مشهد سريالي أقرب إلى الخيال العلمي حيٌّ يحمل كل سكانه سلاحا بنسائه ورجاله، بشيوخه وأطفاله الكل متأبط رشاشة دون التوقف عن  النشاط اليومي العادي كما لو كانت المدينة في حالة حرب، وغيرها من المشاهد الغريبة والمضحكة مضفية على عاصمة الأنوار صورة لم نشاهدها قط في السينما.

وكذلك الحال بالنسبة لنيويورك مع فارق كبير اذ تبدو مدينة ناطحات السحاب وكأنها ركح لمسرحية تمزج بين السيرك وأفلام الرعب.

هذا كلّه نتابعه بعيني شخصية المخرج وهو ينتقل من مكان إلى مكان للقاء المنتجين، فيجد نفسه في وضعيات عبثية تكشف خلفيات لعبة الانتاج المشترك خاصة اذا تعلق الأمر بفلسطين.

مخرجٌ قليل الحركة كثير النظر، قسمات وجهه توقفت نهائيا عن التعبير، في حالة دائمة من الذهول.

كلمتان فقط يتفوّه بهما المخرج في سيارة التاكسي لما يسأله السائق من أي مدينة هو قادم،  فيرد ايليا سليمان "من الناصرة" وعن بلده يقول "فلسطين" مما يرمي السائق في حالة قريبة من الهستيريا المرحة مناديا زوجته لاعلامها بالخبر.

كلمتان رنينهما لن يزول من أذن المشاهد ووقع صداهما لمسناه بعد عرض الشريط لما دام التصفيق أكثر من عشر دقائق تحية لسينمائي أضحى بدون شك من أهم المخرجين العالميين.